
رياض الفرطوسي
العراق اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم، بعد عقدين من التقلّبات التي أنهكته، وأثقلت كاهله بحروب داخلية وصراعات إقليمية وتدخلات دولية. لقد آن الأوان أن يُسأل السؤال بصوت العراقيين أنفسهم: إلى أين نمضي؟ هل سنبقى ندور في فلك الأزمات، أم نغتنم الفرصة لنرسم ملامح مستقبل جديد؟
تجربة السنوات الماضية علّمتنا أن الخطر لا يأتي من الخارج وحده، بل يخرج أيضاً من داخلنا: من فساد يستنزف ثرواتنا، من انقسامات تمزّق نسيجنا، من غياب العدالة في توزيع الموارد والخدمات. الإرهاب لم يكن سوى ثمرة لهذه الثغرات، وكل جماعة متطرفة لا تجد لنفسها موطئ قدم إلا في أرض مثقلة بالحرمان والخذلان.
اليوم، حين يتحدث بعض المسؤولين الأجانب عن مستقبل العراق، فإنهم ينظرون إليه من زاوية مصالحهم الخاصة: مرة باعتباره ساحة صراع، ومرة أخرى بوصفه فرصة اقتصادية. لكننا نحن أبناء العراق نرى الصورة أوضح: نريد أن يكون وطننا دولة سيّدة بقرارها، قوية بمؤسساتها، غنية بثرواتها لا مرتهنة لها، منفتحة على العالم من موقع الندّ لا التابع.
ميلس كيغنز، الناطق السابق باسم التحالف الدولي، لم يُخفِ في حديثه استرجاعه لتجربته مع العراق، منذ لحظة دخوله جندياً شاباً في 2003 وحتى سنوات المواجهة مع "داعش" وما تلاها من تحولات. وهو يعتقد أن الخطر على العراق ما زال قائماً، لكنه يرى أن بغداد اليوم باتت أكثر قدرة على الصمود بفضل ما اكتسبته قواتها من خبرة وما راكمه شعبها من وعي. وفي رؤيته أن علاقة بلاده مع العراق ينبغي أن تنتقل من الطابع العسكري إلى الطابع الاقتصادي، عبر الاستثمار في النفط والغاز وتقليص الاعتماد على الاستيراد. وفي حديثه عن النفوذ الإقليمي، أشار إلى دور إيران وتعقيدات وجود الفصائل المسلحة، لكنه ترك الباب مفتوحاً أمام ما يسميه "خيار السيادة العراقية" في معالجة هذه الملفات.
ومع أن من المفيد الإصغاء إلى ما يقوله رجلٌ كان في قلب الأحداث، فإن العراقيين لا ينظرون إلى بلدهم من زاوية أمنية أو اقتصادية مجردة، بل من زاوية أعمق: كيف نبني دولة متوازنة قادرة على حماية تنوعها وتوظيف ثرواتها لصالح مواطنيها؟ هذه هي البوصلة التي ينبغي أن تقودنا، لا ما يراه الآخرون من خلف حدودهم.
الخطر اليوم ليس محصوراً بعودة "داعش" أو نفوذ قوة إقليمية بعينها، بل يكمن في استمرار غياب الدولة القادرة على أن تجمع مواطنيها تحت راية المواطنة، وتوفّر لهم ما يليق بهم من خدمات وأمن وفرص عمل. الفرصة الحقيقية هي أن نكسر هذه الحلقة، أن نعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، أن نُحوّل النفط والغاز إلى مشاريع تنمية لا إلى مورد للفساد والصراع.
العراق ليس بلداً فقيراً ولا عاجزاً. إنما هو بلد أُرهق بالخيبات، لكنه ما زال يملك كل مقومات النهوض: ثروة هائلة، موقع استراتيجي، وشعب لم يستسلم رغم الجراح. إذا ما اجتمعت الإرادة السياسية الصادقة مع وعي المجتمع، فإن العراق قادر أن يخرج من دائرة الخطر، ويحوّل الفرصة الماثلة أمامه إلى واقع.
إننا نحن العراقيين من يقرر أي طريق نسلك. لسنا مضطرين لأن نُختزل في روايات الآخرين ولا في حساباتهم. صوتنا، تجربتنا، وتطلعاتنا هي التي يجب أن تكتب قصة هذا البلد من جديد. العراق اليوم فرصة، نعم، لكنه فرصة تتنازعها الأخطار. وإن لم نحسن صونها، فلن يبقى لنا سوى الخطر خالصاً بلا فرصة.