
رياض سعد
منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، خضعت الشعوب العربية، وفي مقدمتها العراق، لمراحل متتالية من السيطرة الأجنبية، تارةً عبر الاحتلال العسكري المباشر، وتارةً عبر الانتداب والوصاية ؛ وثالثة عبر أدوات خفية تمثلت في وكلاء سياسيين واقتصاديين واجتماعيين… ؛ وقد بات واضحًا أن ما يُطلق عليه “الاحتلال الناعم” ليس مجرد نظرية سياسية، بل هو نظام عمل شامل، تقوده قوى الاستكبار العالمي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بهدف بسط النفوذ ونهب الموارد والتحكم بمصير الدول دون الاضطرار لدخول حرب تقليدية.
في هذه المقالة ، نحاول تفكيك آليات هذا الاحتلال الناعم في العراق، وبيان كيف تحوّلت أدوات السيطرة من الدبابة إلى البنك، ومن الضابط العسكري إلى السياسي العميل، ومن الاستعمار الكلاسيكي إلى الاستتباع الإداري-المالي الذي تلبّس ثوب الديمقراطية والاستثمار والرأسمالية .
أولًا: من الاستعمار الكلاسيكي إلى الاستعمار المعولم
منذ أن غزت بريطانيا العراق في الحرب العالمية الأولى، وحتى تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، شكّل العراق ساحة اختبار للسياسات الاستعمارية البريطانية… ؛ تم تتويج الملك فيصل بن الحسين كحلّ انتقالي تحت وصاية البريطانيين، ولكن دون تمكين فعلي للشعب العراقي… ؛ وعلى الرغم من أن العراق نال “استقلاله الرسمي” في عام 1932، إلا أن القرار السياسي ظل مرتهنًا للقوى الأجنبية، بشكل مباشر أو غير مباشر. (1)
وبعد الحرب العالمية الثانية، ومع تراجع الاستعمار التقليدي، لجأت القوى الغربية إلى إعادة إنتاج سيطرتها من خلال أنظمة حليفة، واتفاقيات اقتصادية طويلة الأمد، وتدخلات استخباراتية، ما بات يُعرف لاحقًا بـ”الاستعمار الجديد” أو النيوليبرالية الاستعمارية.(2)
ثانيًا: الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 كنموذج للهيمنة الناعمة
حين غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، تحت ذريعة “أسلحة الدمار الشامل”، كانت الحقيقة أن الغزو كان يهدف إلى فرض نظام إقليمي جديد يضمن السيطرة الأميركية على مفاصل الدولة العراقية: أمنًا، واقتصادًا، وإعلامًا، وتشريعًا.
وقد كان بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي، هو الممثل العملي لهذا المشروع، إذ أصدر عشرات القرارات التي أسست لبنية سياسية واقتصادية تتوافق تمامًا مع مصالح واشنطن، من أبرزها: حلّ الجيش العراقي… ؛ خصخصة الاقتصاد… ؛ إنشاء مجلس الحكم الطائفي… ؛ وضع أسس الدستور بطريقة تُكرّس المحاصصة والانقسام … الخ . (3)
وقد اعترف بريمر نفسه في مذكراته بأن تشكيل الطبقة السياسية العراقية الجديدة تم بتوصيات استخبارية وضغوط أميركية وبريطانية. (4)
ثالثًا: الفساد كأداة استعمارية ممنهجة
الفساد لم يكن “نتيجة عرضية” لفشل الدولة العراقية، بل هو أداة استعمارية معتمدة، تُستخدم لخلق طبقة سياسية تابعة، ضعيفة، وسهلة الابتزاز.
تُقدّر الأموال المنهوبة من العراق بعد 2003 بما يزيد عن 400 مليار دولار، ذهبت أغلبها إلى حسابات خارجية في مصارف غربية، بموافقة ضمنية من القوى الدولية التي تراقب كل حركة مالية في العراق. (5)
بل إن الإدارات الأميركية نفسها تمتلك معلومات دقيقة عن الفاسدين، وتتحكم بها كورقة ضغط. والدليل أن أي تحقيق دولي في الفساد غالبًا ما يتوقف عندما يقترب من رجال السياسة المحسوبين على واشنطن. (6)
رابعًا: الوجود الاستخباراتي والتحكم بالقرار السيادي
المخابرات الأميركية تمتلك قدرة لا تُضاهى في تتبع الحوالات المالية، ورصد الاجتماعات السرية، والتجسس على الأجهزة الحكومية… ؛ ومع ذلك، لم يُسجَّل أي تدخل جاد من قبلها لوقف عمليات تهريب الأموال أو تصفية الفاسدين، ما يُشير إلى أنها تغضّ الطرف عنهم لأسباب استراتيجية.(7)
فمن الواضح أن الولايات المتحدة لا تسعى لإصلاح النظام، بل لضمان بقائه فاسدًا وخاضعًا لها، لأنها تعلم أن الإصلاح الحقيقي سيُنتج طبقة سياسية وطنية لا يمكن التحكّم بها.
خامسًا: الاحتلال الناعم وهيكلة المشهد السياسي
من خلال صناديق الاقتراع و”الديمقراطية الموجهة”، تم إنتاج مشهد سياسي هشّ، قائم على:المحاصصة الطائفية… ؛ التبعية الاقتصادية… ؛ التدخل الخارجي في تعيين رؤساء الوزراء والوزراء… ؛ تبنّي أجندات لا تمثّل الشعب العراقي … . (8)
هذه “الدمى السياسية – واقصد الفاسدين والعملاء والفاشلين والمنكوسين منهم- ” التي تحكم العراق اليوم، ليست أكثر من أدوات تُحرّكها قوى خارجية، وتُسند لها مهمة إفراغ الدولة من معناها، وتثبيت الاحتلال الناعم.
الخاتمة: طريق التحرر يبدأ بالفهم
ما لم يُدرَك الشعب العراقي أن ما يعانيه من فشل سياسي وفساد مالي وتخبط اقتصادي، ليس مجرد إخفاق محلي، بل هو نتيجة احتلال ناعم مُحكم التخطيط، ستبقى أي حلول جزئية عاجزة عن التغيير.
والخلاص يبدأ من الاعتراف بأن الديمقراطية المستوردة ليست وطنية، وأن السيادة لا تُشترى من واشنطن، وأن الفاسد ليس سوى واجهة لمشروع أعمق وأكثر خطورة: مشروع الهيمنة الغربية الممتدة عبر أدوات محلية.