
قاسم الغراوي
رئيس مركز انكيدو للدراسات
في كتابه “نحن والحمير في المنعطف الخطير”، يسرد الأديب اليمني محمد مصطفى العمراني حكاية بسيطة من قريته، لكنها تختزل عمقًا فكريًا واجتماعيًا بالغ الأثر.
يحكي عن أهالي قرية يضطرون لجلب مياه الشرب من عين ماء عبر طريق وعر يمر بمنعطف خطر تسبب بوفاة عدد من الأطفال نتيجة السقوط في الوادي.
ولعقود، ظل وجهاء القرية يجتمعون ويتناقشون لإيجاد حل، دون تغيير يُذكر.
حتى جاء أحدهم وسأل السؤال البديهي:
“لماذا لا تسلكون طريقًا آخر؟”
فكانت الإجابة الصادمة:
“نحن نمشي وراء الحمير، وهي من تسلك بنا ذلك الطريق!”
هذه القصة القصيرة تتجاوز إطارها المحلي لتعبّر عن مأساة أوسع: مأساة المجتمعات التي تسير بلا وعي، وتُقاد بلا تفكير، وتُسلم قيادها للعادة أو للجهل أو لمن لا أهلية لهم للقيادة.
إن الحمير هنا ليست سوى رمز لكل ما هو جامد ومتوارث ومفروض بلا عقل، بدءًا من النظم السياسية المتكلسة، مرورًا بالعادات الاجتماعية البالية، وانتهاءً بثقافة التبعية التي تصنع أفرادًا لا يسألون، ولا يراجعون، ولا يعيدون النظر في المسارات التي يسلكونها، مهما كانت خطورتها.
المجتمع الذي لايسال : السؤال “لماذا؟” هو حجر الأساس في أي وعي حي، وأي نهوض حضاري ، وغياب هذا السؤال يجعل المجتمعات تسير خلف “الحمير”، أي خلف المسارات المفروضة والتقليد الأعمى، حتى وإن كانت نهايتها هاوية.
إن ما يثير القلق في القصة ليس فقط أن الناس يسيرون في طريق خطر، بل أنهم يفعلون ذلك بكامل الطاعة والانقياد، دون مساءلة أو اجتهاد ، وهذا يمثل حالة منتشرة في مجتمعاتنا اليوم، حيث تُتبع قرارات أو سياسات أو أعراف، لمجرد أنها “المتبعة”، دون تقييم أو مراجعة أو تفكير نقدي.
ان العقل الجمعي والتواطؤ الصامت
لاجتماعات وجهاء القرية لعقود دون اتخاذ قرار فعلي تعكس ظاهرة أخرى وهي :
ثقافة التواطؤ الصامت، والاجتماعات الشكلية، والنقاشات التي لا تُفضي إلى فعل.
وهذه ثقافة لا تقل خطورة عن التبعية نفسها، لأنها تعطي وهم التحرك، بينما الواقع ثابت، بل يسير نحو الأسوأ.
رسالتنا ؛
على ضوء هذه القصة الرمزية، ينبغي أن تعيد النخب الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية النظر في دورها.
هل تقود الناس إلى طريق آمن؟
أم أنها – كما في القصة – تكتفي بالمراقبة والتنظير، وتترك الحمار يقود الركب؟
إننا بحاجة إلى قيادة فكرية حقيقية تعيد رسم الطريق، لا أن تكتفي بالتبرير أو السير خلف العادة، حتى لو كانت هذه العادة قاتلة.
قصة “نحن والحمير في المنعطف الخطير” ليست حكاية قروية عابرة، بل مرآة لمجتمعات بكاملها. وهي دعوة للاستفاقة من سبات التقليد والتبعية، وللتساؤل:
من يقودنا؟ وإلى أين نمضي؟ ولماذا لا نختار طريقنا بأنفسنا؟
ففي لحظة الوعي، قد يتغير الطريق… وقد تنجو الأجيال من السقوط في الوادي.