
د. محسن حنون العكيلي
في عالم تتسيّده القوة ويفرض فيه منطق المصالح نفسه على المبادئ، تبدو المفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية حالة استثنائية ونادرة. إذ ليست هذه المحادثات مجرد نقاشات تقنية حول الملف النووي، بل هي في جوهرها مفاوضات سيادية تختبر من خلالها إيران مكانتها الإقليمية والدولية، وتؤكّد أنها طرف لا يمكن تجاوزه.
في التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني، أُشير إلى الدور العُماني المتجدد في تقريب وجهات النظر وتقديم أفكار جديدة لتجاوز نقاط الخلاف بين طهران وواشنطن. وقد أثبتت مسقط مرارًا أنها تملك القدرة على لعب دور الوسيط المحايد والموثوق، خصوصًا بعد نجاحاتها السابقة في التمهيد للاتفاق النووي عام 2015. هذا الدور العُماني ليس مجرد نشاط دبلوماسي، بل يعكس ثقة الأطراف المختلفة بقدرة سلطنة عمان على إدارة التوازنات المعقدة دون الانحياز أو الضغوط.
ان المحادثات النووية بين إيران وأميركا، بحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين، ليست “تسويات بين قوي وضعيف”، بل مواجهة بين ندّين، كل منهما يحمل أوراقه ومطالبه، ويسعى لفرض معادلة تحفظ له الحد الأعلى من المكاسب. وإيران، التي رفضت باستمرار فرض الشروط الأميركية، تمضي في هذه المفاوضات على أساس الشروط المتقابلة والمصالح المتبادلة، لا الخضوع.
وهنا تتجلى صورة نادرة في العلاقات الدولية: دولة من العالم الإسلامي، محاصرة اقتصاديًا ومهددة عسكريًا، تفرض على الولايات المتحدة التفاوض معها من موقع الندّية. واللافت أن أي محاولة أميركية لإضافة شروط جديدة أو تجاوز الاتفاقات السابقة تُقابل برفض قاطع من طهران، ما يدلّ على عمق الثقة بالنفس التي تمارسها القيادة الإيرانية.
في مقارنة تاريخية لا تغيب عن الذاكرة، شاهدنا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يملي على زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، أن يتفاوض مع روسيا. وشاهدنا ذات الرئيس يجوب العواصم العربية، حيث يُستقبَل كالمنقذ، ويُمنح صفقات بالمليارات مقابل ما يُسمّى بـ”الحماية”. هذا المشهد لا ينطبق إطلاقًا على إيران، التي لم تستقبل ترامب، ولم تنحنِ لإدارته، بل على العكس، انسحب ترامب من الاتفاق النووي بشكل أحادي، وإيران لم تركع، بل صعّدت برنامجها النووي ورفعت من سقف شروط العودة للاتفاق.
إن إصرار إيران على التفاوض من موقع القوة، لا يعكس فقط صلابة الموقف الإيراني، بل يمنح أيضًا بعدًا معنويًا عميقًا. فهي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تفاوض أميركا دون أن تُفرض عليها الشروط، ودون أن يُشترط عليها تغيير سياساتها الخارجية أو التخلي عن تحالفاتها مع قوى المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق.
وإذا كان الأميركيون يسعون لاستخدام التفاوض لترويض الخصوم وفرض الهيمنة، فإن إيران تستخدم هذه المفاوضات لإثبات أن الإسلام، حين يُحكم بعقل وقيادة مستقلة، لا يرضخ بل يُفاوض من موقع الفخر والعزة.
ما اريد أن أقوله، ليست مفاوضات إيران مع أميركا مجرد جولات دبلوماسية؛ بل هي معركة سيادية تحمل في طياتها رسائل لكل أحرار العالم، ولكل من يعتقد أن الاستقلال ممكن، وأن المقاومة ليست عبثًا. إن ما يجري اليوم ليس اختبارًا لإيران فقط، بل اختبار لقوة الشعوب في وجه الإمبراطوريات. وإذا كانت إيران تُجبر واشنطن على التفاوض دون شروط، فهذا يعني أن زمن الأحادية الأميركية لم يعد مطلقًا.