ضياء ابو معارج الدراجي
يبدو أن رئيس البيت الأبيض الحالي، دونالد ترامب، قد قرر أن يُدخل السياسة الدولية في مزاد علني، فبعد أن باع وعوده الانتخابية كما يبيع أحد مشاريعه الفندقية الفاشلة، ها هو اليوم يعرض أوكرانيا على طاولة المقايضة، غير آبه بصراخ زيلينسكي،
ذاك الرئيس الراقص الذي استنزف كل ما تملك بلاده في سبيل تحقيق الحلم الأمريكي، ليجد نفسه فجأة مرميًا تحت أقدام الدب الروسي مقابل صفقة تجارية تضمن لترامب فرض ضريبة 50% على موارد أوكرانيا، وكأنه تاجر خردة يعيد تدوير الحلفاء حسب الحاجة.
لكن زيلينسكي ليس الأول ولن يكون الأخير، فالتاريخ حافل بأمثلة على من وثقوا بواشنطن وانتهوا إلى مصير مؤلم. صدام حسين، على سبيل المثال، كان في يوم من الأيام “رجل أمريكا” في المنطقة، استخدمته لمواجهة إيران، أغدقت عليه بالسلاح والمعلومات، جعلته يتوهم أنه القائد الاقوى في المنطقة ومن خلفه الداعم الامريكي ولم يتوقع الخيانة، وهو لا يعلم أن دوره سينتهي يوما ما بمجرد أن تتغير قواعد اللعبة.
في لحظة، تحولت واشنطن من داعم سري إلى قاض وجلاد، فاجتاحت العراق بقواتها، دمرت كل سلاحه وبناه التحتية، وألقت بصدام إلى المقصلة بعد أن انتهت صلاحية خدمته.
واليوم، يتكرر المشهد مع زيلينسكي، الرجل الذي صدّق وعود واشنطن كما صدّقها صدام من قبله. لم يدرك أن أمريكا لا تصنع رجال دولة، بل تصنع بيادق تُحركها متى شاءت، ثم تسحقها حين تصبح عبئًا. بالأمس كان زيلينسكي “بطل الديمقراطية”،
واليوم أصبح دكتاتور ومجرد ورقة محروقة تُستبدل في صفقة جديدة مع بوتين، الذي أخرج ترامب له السجاد الأحمر بينما فرض على زيلينسكي مشاركته بنصف موارد أوكرانيا.
أما الحلفاء العرب، فها هم اليوم يقفون على حافة المجهول، إذ بدأ الجفاء الأمريكي تجاه مصر والأردن وعربان الخليج يأخذ منحى خطيرًا، فبعد أن استنزفت واشنطن أموالهم ومواردهم تحت شعارات الحماية والتحالف الاستراتيجي، ها هي تفتح قنوات مع إيران وتبحث عن بدائل تضمن استمرار نفوذها في المنطقة، غير عابئة بمصير من ارتهن قراره لها.
في العراق، لا تزال بعض الوجوه السياسية التي رفضها الشعب، ولفظها التاريخ، تراهن على أمريكا وكأنها قادرة على إعادتهم إلى الواجهة، غير مدركين أنهم مجرد أوراق محروقة انتهت صلاحيتها، ولن تعود مجددًا. إياد علاوي، الكاظمي، فائق الشيخ علي، غيث التميمي، ومجموعة تشرين التي تحولت من “حراك شعبي” إلى لعبة بأيدي السفارات، جميعهم يعيشون وهم العودة، متناسين أن أمريكا لا تُعيد أدواتها القديمة، بل تستبدلها كلما تغيرت القيادة في واشنطن. من كان بالأمس يُستقبل في البيت الأبيض، بات اليوم مجرد ذكرى بائسة على رفوف المخابرات الأمريكية، يتوسل فرصة جديدة لن تأتي أبدًا.
أمريكا، كما أثبتت عبر العقود، لا تحمي أحدًا، ولا تفي بوعودها، بل تستغل من يخدمها، ثم تلقي به إلى المجهول حين ينتهي دوره. الحلفاء ليسوا إلا وقودًا لمصالحها، والسياسات تتغير بتغير الإدارات، أما الخونة الذين باعوا أوطانهم لقاء وعود كاذبة، فسيجدون أنفسهم يومًا في الهامش، معزولين، منبوذين، بعد أن تم استهلاكهم بالكامل.
بمناسبة الشأن العراقي وترامب حاليا بخصوص العقوبات الاقتصادية،فمنذ عودته إلى البيت الأبيض، تصاعدت التكهنات حول مستقبل العلاقات الأمريكية مع العراق، وسط ضجيج إعلامي اعتاد عليه الرجل الذي لا يُتقن سوى فن التصريحات النارية والمساومات العلنية.
لكن بعيدًا عن الضوضاء التي يثيرها، فإن سياسته تجاه العراق لن تختلف عن سابقيه، ولن تؤثر على النظام السياسي القائم، ولن تحمل أي مفاجآت قد تقلب الموازين كما يتوهم البعض لان مصالح امريكا مع النظام العراقي الحالي فلن يخسر ترامب تلك المصالح لصالح برزاني او دعبول او غيرهم.
منذ عقود، والإدارة الأمريكية تتعامل مع العراق وفق معادلة ثابتة: السيطرة غير المباشرة، الضغط الاقتصادي المحدود، وعدم الإضرار بالبنية السياسية التي تخدم مصالحها. ورغم نبرة ترامب التصعيدية، إلا أنه في النهاية لن يقدم على خطوات تهدد الاستقرار السياسي، ولن يفرض عقوبات اقتصادية شاملة على العراق كدولة، بل ستكون استهدافاته انتقائية، تطال شخصيات محددة ومصارف أهلية مرتبطة بها، وهو تكتيك استخدمه سابقًا ولم يحقق به شيئًا يُذكر سوى إثارة بعض الضجيج الإعلامي.
ترامب يُتقن فن التهديدات الفارغة، لكنه لا يُنفذ معظم ما يتوعد به. فالرجل الذي لطالما ادعى أنه سينسحب من العراق، لم يفعل،
ومن هدد بمحاسبة الفاسدين، لم يحاسب أحدًا، ومن لوّح بالعقوبات، لم يفرض سوى إجراءات محدودة لم تؤثر على المشهد السياسي العام.
في الحقيقة، ترامب ينطبق عليه المثل العراقي “شعرة من جلد خنزير”، أي أنه يهدد ويصرخ، ليس بقصد التنفيذ، بل لعله يحصل على بعض التنازلات هنا وهناك، وإن لم يحصل، فلا بأس، فلن يدخل حربًا جديدة ولن يتورط في مستنقع آخر، وهو الذي بنى شعبيته على الوعود بعدم توريط أمريكا في نزاعات طويلة الأمد.
أما النظام السياسي في العراق، فهو أكثر استقرارًا من أن تهزه تغريدات ترامب أو ضغوطه المحدودة، فواشنطن، سواء بترامب أو بغيره، تعلم جيدًا أن العراق بات جزءًا من توازن إقليمي لا يمكن العبث به بسهولة.
لذا، فإن أقصى ما يستطيع فعله هو الضغط على شخصيات معينة، أو التضييق على بعض المصارف الأهلية المرتبطة بأسماء لم تعد ذات أهمية استراتيجية حتى داخل المشهد العراقي نفسه.
في النهاية، ترامب ليس إلا نسخة صاخبة من الإدارات السابقة، يتكلم كثيرًا، يهدد أكثر، لكنه في الواقع مجرد تاجر يسعى للحصول على أكبر قدر من المكاسب بأقل الخسائر، وإذا لم يحصل على شيء، فلا مشكلة، فالمسرحية الإعلامية التي يديرها كافية بالنسبة له ليُقنع جمهوره أنه الرئيس الذي لا يرحم، حتى لو لم يفعل شيئًا يُذكر.
|