الخبير عباس الزيدي ||
في عام 1990 اطلق جوزيف ناي الاكاديمي والباحث والنائب الاسبق لوزير الدفاع الامريكي تعريفا لمفهوم القوة الناعمة،
قال فيه “انها قدرة امة معينة على التاثير في امم اخرى وتوجيه خياراتها العامة”، وحدد ناي الوسائل لذلك في جاذبية النظام الاجتماعي والثقافي، ومنظومة القيم والمؤسسات بدل الاعتماد على الاكراه او التهديد.ورغم ان مفهوم القوة الناعمة ليس بالامر الجديد على امريكا والعالم،
الا ان بلورته كمصطلح وكمنهج للسياسة الدولية لم يتم الا مطلع التسعينات من القرن الماضي، فلقد قادت الولايات المتحدة الامريكية عالما جديدا وخرجت من الطبيعة التقليدية للسياسة الى وجه آخر لها.
ففي الوقت الذي تصدر فيه اليمين المتطرف مشهد السلطة والحكم في واشنطن، تصاعد منسوب القوة الناعمة الامريكية في الدعاية والاعلام، وخلق مجالات وفرص للجاذبية والتاثير، واضافة الى حيازتها لاساسيات القوة الصلدة،
وحرصت الولايات المتحدة ان توظف عوامل القوة لديها من خلال القوة الناعمة، فاحتفظت بتفوقها الاعلامي،واحتكارها لصناعة المعلومات وتسويقها، بعد تطور التعاطي مع الانترنت بشكل مذهل الى الحد الذي تغيرت على اساسه قواعد العملية الاعلامية بشكل تفاعلي غير مسبوق، واحتفظت هولويود بسيادتها المطلقة بصريا.وتحولت اللغة الانجليزية، وموسيقى البوب، والروك، ووجبات كنتاكي، وماكدونالد، وافلام الاكشن، والخيال الهوليودي الى واقع لاغنى عنه في بيئة عالمية تخضع لهيمنة الثقافة الامريكية الجاذبة.ولم يقتصر تطبيق القوة الناعمة على الولايات المتحدة،
بل سعت دول اخرى الى استغلال وسائل القوة الناعمة في بناء مرتكزات وجودها، واهميتها في الساسة الدولية، رغم عدم امتلاكها اسس القوة التقليدية، ففي الشرق الاوسط نجحت دبي من خلال الابهار العمراني، ونمط المعيشة المتطور، وسياحة المهرجانات والمؤتمرات، ونجحت الدوحة من خلال شبكة الجزيرة الفضائية التي جذبت الرأي العام العربي في المجالات الاكثر جماهيرية، الرياضة والسياسة، وتمكنت المملكة العربية السعودية من توظيف الفكر الوهابي، والهيمنة على وسائل الاعلام والانتاج الفني والثقافي، برصد مبالغ كبيرة،
ونجحت انقرة من خلال الدراما التلفزيونية والترويج للنموذج السياسي الاردوغاني.وبعد هذا الاستعراض السريع استطيع الان ان اتحدث عن القوة الناعمة العراقية، لاسأل هل هي موجودة، وهل يؤمن السياسيون العراقيون باهميتها، وما الداعي لوجودها، وهل هي ضرورة ام ترف، كل هذه الاسئلة واسئلة اخرى اضعها على طاولة الحريصين على مكانة العراق، واهمية وجوده كدولة بدات تدخل المنافسة وتخضع لقوانين توازن القوى في الشرق الاوسط.
واقول ان بناء القوة الناعمة العراقية بات ضرورة وطنية لاتقل اهمية عن بناء القوات المسلحة العراقية، لانها اي القوة الناعمة الوسيلة الوحيدة لاستعادة العراق لمكانته الاقليمية، والعالمية التي تتناسب مع مقومات القوة لديه، بعد تخليه عن عوامل القوة الصلدة التي كان يمتلكها من جيوش او اسلحة،اوعقيدة قتال قائمة على التوسع والتدخل.
وننطلق في بناء قوتنا الناعمة من فهم اهميتها واهمية استيعابنا لها، لان الرأي العام العراقي غالبا مايحصر الدولة في وظيفة محدودة يروج لها بعض رجال السياسة، وكثير من الكتاب والاعلاميين، وهي توفير الامن، والخدمات، والكهرباء، وتوظيف العاطلين، واطعام المحتاجين، وتأمين وصول مفردات الحصة التموينية كاملة غير منقوصة، ورغم ان هذه الامور من بديهيات واساسيات عمل الدولة لكنها اي الدولة ليست جمعية خيرية، او دائرة بلدية،
واذا ارتضت ان يتحدد دورها بذلك تكون قد وضعت نفسها في خانة الدول الفاقدة للتاثير الداخلي والخارجي.القوة الناعمة العراقية تستوجب فهم واستيعاب النخبة لها فقد اثبتت التجربة ان كل نشاط ثقافي، او فني، او اعلامي يمكن او يوفر مجالات دعاية اكبر للعراق يواجه بعاصفة من النقد والتسفيه من قبل قطاعات واسعة مثلما حصل في احتفالات عيد الصحافة العراقية، او الصالون الثقافي العربي في القاهرة على سبيل المثال لا الحصر والمعارضين يعللون اسبابهم في عدم جدوى الانفاق في هكذا مجالات بترشيد الانفاق والحفاظ على المال العام.ولكننا اذا فهمنا اهمية وخطورة ودور القوة الناعمة سنفهم ان مايتم صرفه سيحقق مكاسب لاتقدر بثمن، تتعلق بالتأثير الخارجي والتماسك الداخلي،
لذلك فمثلما تتضمن الموازنة المالية السنوية مفردات عن القضايا الضرورية، والبنى التحتية، وميزانية الدفاع يجب ان تكون هناك تخصيصات وفيرة لارساء اسس القوة الناعمة العراقية
|