قصة قصيرة/ للكاتبة انتصار الحسين/ العراق
على ضفاف الأهوار كان بيتنا المبني
من القصب قائم رغم هبوب الرياح والأمطار. كانت الأجواء باردة، لكننا لم نشعر بهذا البرد، حيث ترتفع ضحكاتنا ونحن نطوف حول أمي
كما يطوف الحجاج حول الكعبة.
كانت أمي مثلا الوتد لبيتنا، سيدة بألف رجل
تستيقظ في- كل صباح-. لتشعل نارا تحت موقد الحطب، وتضع إبريق الشاي
والبيض وبعض الحليب والزبد والجبن الذي تصنعه بنفسها
من نتاج حيواناتها، أما البيض كانت تستيقظ مبكرا وتبحث عنه في أعشاش الدجاج المختبئة بين العشب وتحت الأشجار.
كان بيتنا مليئا بالحب والدفء. نجتمع حول
النار والصينية التي ورثتها أمي عن والدتها،
إذ كانت آثار السنين تغطيها،
من كثرة سحقها بأقدام جاموستنا التي أطلقنا عليها اسم وردة
كل مرة وردة تقطع الحبل وتتجه نحونا بسرعة وجنون
لتلتهم ما أمامنا من طعام
ونحن نهرب منها مسرعين وصوت ضحكاتنا العالية تملأ الأجواء
أمي تصيح بالجاموسة وتبعدها بكلمات كنا لانفهما
لكن وردة تفهما.
تبدي أمي انزعاجها منا لكننا لا نأبه ونضل نضحك
تبعثر الجاموسة المجنونة كل شيء
في الصينية وتدوسه،
تلك اللحظات نشعر فيها بالمتعة،
بينما تعيد أمي ربط الجاموسة
وتهمس بصوت منخفض لم يحصل شي
بعد أن تضرب بالخبز على ركبتها بحركة سريعة لنفض ما يتعلق بالخبز من تراب وهي تجلس ملفوفة بالعباءة، (الوزارة)
، ولم تكن تفكر بالجراثيم وانتقال العدوى. فما أن التقطت الخبز المتناثر وجمعت ما استطاعت. قالت وهي تزجرنا: كفى ضحكا. تعالوا للإفطار." لنعود لنأكل ما بقي .ولم يصله له فم وردة، وهكذا يبدأ نهارنا.
ا تكنس أمي بالمقشه البيت وبعد اكمال العجن تغطيه ، تمشط شعر أختي غيده
وترتب ثيابي، وتأخذنا إلى المدرسة بالمشحوف
ا (((المشحوف قارب خشبي نحيف الشكل لكي يسلك في الممرات المائية التي تكون ضيقة في بعض ممرات الأهوار بين القصب والبردي)))
إلى حيث الجانب الآخر من النهر، وفي طريق عودتها، تصطاد بعض الأسماك
لتجلبها إلينا لتناول طعام الغداء. ترمي شبكتها وهي واقفة بداخل المشحوف الذي يهتز وسط الماء. بينما تقف كأنها أميرة خرجت من بين حكايات سومرية،
قطرات الماء تتطاير من حولها
والشمس تداعب بصرها لتجعلها تميل بعيونها بعيدا عن مطلع الشمس،
بعد هذه الرحلة لجلب لقمة العيش
تعود أمي، لتشعل موقدها الطيني، تشوي السمك، وتخبز بتنور الطين
وتدندن بنعاوي الجنوب الحزينة، الشجية
ثم تعود بمشحوفها لتأتي بنا من المدرسة.
أمي رغم كل عملها من الصباح الباكر
الذي يبدأ بالاهوار عند بزوغ أول الضوء
إلى الغروب لم تكن تشكو
ولم تظهر التعب. كانت تقابلنا بابتسامة على وجهها، ونحن نضحك- بصوت عال-. من كلامها
في كل مرة تعيدنا فيها
لأنها تنادينا اهلا بالأطباء،
ونحن ننتظرها حفاة على جرف النهر.
لقد اعتدنا على المشي حفاة القدمين لأننا نسير بسرعة دائما.
نركض خلف الحيوانات الجاموس ونصيد الحبارى وغيرها من حيوانات الأهوار
بمجرد خروجنا من المدرسة، كنا نحمل أحذيتنا في أيدينا. ما أن نركب مع أمي المشحوف
حتى نبدأ نصفق ونردد هوسات الأهوار.
كانت والدتي. لا تطفئ النار أبدا
حتى نتمكن من البقاء دافئين ونرى ما حولنا حيث بمجرد حلول الليل
لايبقى إلى ضوء القمر باليال المقمرة. ويكون معتما في بقية اليال
فقد بنينا منزلنا بعيدا عن القرية
بعد فقد والدنا. إنه رحل ولم يعد ولا نعرف مصيره.
لذلك قررت والدتي بناء منزل بعيد
لأنها كانت وحيدة وتخاف كيد الناس.
قامت والدتي بتربية العديد من الحيوانات، كالدجاج والبط والإوز والجاموس، كانت تعتني بهم من الصباح إلى المساء. حيث تذهب لجلب الحشائش لإطعامهم
والدتي مشرقة. بيضاء تجملها الدكات الجنوبية في حنكها ويديها لا تغيرها الشمس ومع التعب تزداد جمالا عندما يتحول لون خدودها إلى اللون الوردي المحمر تحت قوة أشعة الشمس. وهي بطبيعتها تعيش في سلام وراحة بال، ولا يوجد ما يدعو لقلقها إلا أنا وأختي.
تمنت لنا أن نعيش حياة مختلفة
لا يوجد فيها تعب، لكننا لم نشعر بالتعب. لقد أحببنا بيئتنا كثيرا. ومرت الأيام وكبرت قليلا، فبدأت بالصيد معها. ذهبت أنا وأمي إلى بيع
ما ننتجه من حليب وزبد وسلات الخوص التي تصنعها أمي من القصب نعبر
إلى الجانب الآخر، حيث
الناس القادمون من المدينة يتجمعون لشراء ما يصطاده أهل الأهوار. كانت والدتي تحب
حياة المدينة وتحثني على النجاح لتجنب التعب، ولكنني كنت شديد التعلق بجو الأهوار، حيث منظر غروب الشمس، والمياه، والطيور، والسماء الصافية، والناس الطيبين ببساطتهم.
بدأت أختي تتراجع في دراستها
وذلك خيب ضنا أمي، حتى قررت عدم إرسالها إلى المدرسة بعد أن بقيت في المرحلة الإعدادية ولم تنجح فيها. تقدم لخطبتها إحدابناء
قريباتنا، وتزوجت وعاشت حياتنا المعتادة
التي ولدنا فيها، لكن هذا لم يلب طموحا أمي. فركزت أمي علي وبقيت خلفي وتدفعني للتغيير. أكملت دراستي ثم سافرت إلى لندن للحصول على الشهادة العليا. عشت هناك في جو من الحضارة والراحة وتوافر كل شيء، لكنني لم أشعر بالانتماء. التقيت بعائلات عراقية لديها بنات يرتدين أجمل أزياء ومؤدبات ومثقفات
في نفس الوقت. حيث كانت الناس مولعة بقراءة الكتب لم يكن يشغلهم شيئا عن ذلك
لقد حملوا الثقافة الغربية والأصول العربية. ولم يغيرهم المهجر. لقد أرادوا أن يجعلوني صهرهم، لكنني لم أرغب بذلك.
أنا أحب كل التفاصيل البسيطة وأبقى أحن لوطني. كان قلبي يشتاق لقصب البردي والجلوس قرب حافة الماء، حيث تتلاطم أمواج المياه ورفرفت أجنحة الطيور وزقزقت العصافير
مع منظر الشمس التي تكاد المياه تبتلعها
كلما سقطت عند غروب الشمس. كانت هذه الذكريات تأكلني وشعرت بالغربة.
كل الطعام لم يكن يعجبني، آه على رغيف خبز أمي، الذي كان يطبع عليه أصابعها وأشم رائحته من بعيد مع منظر الدخان
الذي كان يتصاعد ليلطخ وجه أمي وهي تهم بإشعال النار تحت الحطب لتحضير الطعام.
وهكذا مرت الأيام واقترب حلم الدكتوراه، لكنه لم يكن حلمي. لقد كان حلمها.
أما أنا فلم أعرف ماذا أريد. كل شغفي كان في بضعة ألوان. اشتريتها من أحد أسواق لندن.
كلما أشتق قلبي إلى الوطن، كنت ألتقط فرشاة الرسم وأغيب عن كل ما حولي.
تذهب روحي إلى الأهوار
وطبيعتها الخلابة، فأرسم تلك المشاهد. التي اشتاق لها منظر غروب الشمس، والصيادين، والماء، وموقد النار، وكل ما أتذكره.
لكن ذات مرة رسمت رغيفا من خبز أمي، لأنني كنت جائعا.
لقد نسيت أن أحضر الطعام معي بعد عودتي
إلى غرفتي بالفندق الذي أعيش فيه. لقد وددت كثيرا أن أرسم تلك الصينية إرث جدتي، المتجعدة وكأنها تحمل خطوط العمر على جبين الزمن.
ف رسمت أمي مؤازرة ب عباءتها الجميلة،
وهي تصب الشاي في كوب
كان مثلوما قليلا من إحدى حافاته ومكسورا من مكان مسكته.
رسمت تفاصيل الدخان المتصاعد من إبريق الشاي، طبق الخبز المصنوع من القصب،
سجادتنا التي صنعتها أمي من خيوط الصوف.
وكلما اشتد جوعي، أضفت المزيد والمزيد
من التفاصيل حتى انهارت قوتي ونمت،
بعد أن وضعت توقيعي على أدنى نقطة
في أسفل اللوحة،
عدت في الصباح إلى دراستي.
لم يبق سوى أشهر قليلة لإكمال دراستي.
كان الملل يقتلني والشوق يقتلني.، وسرعان
ما عدت إلى الشقة لأرسم. لقد ترجمت
كل أشواقي إلى لوحات. كنت أرسل رسائل
إلى أمي، ولا أعلم إن كانت تصلها أم لا.
رسمتها بينما هي خلف النهر بقيت وحيدة تنتظر عودتي
حتى لحظة استلامها للرسائل التي تخيلتها. كنت أرسمها، وأتخيل، ردها عليهن. عندما كتبت، اشتقت لرؤيتك
كنت أعرف أنها ستكتب لي. اصبر لا تخذلني أريدك طبيبا
حتى إذا اقترب يوم عودتي إلى المنزل،
كانت اللوحات همي الوحيد
أصبحوا كثيرات فكيف أخذهم معي
قلبي لم يسمح لي أن أتركهم لكنهم كانوا كثيرات ونقلهم يتطلب مبلغا كبيرا من المال الذي لااملكه فقررت أن آخذ معي فقط لوحة رغيف خبز أمي، والبقية قررت إهداءهن
إلى الجامعة كذكرى لي، فعلقتهن
على جدران الجامعة بعد أن قمت بتأطيرهن.
لكن رئيس الجامعة لاحظ لوحة رغيف الخبز
أصر على أخذها
أخبرته أنها عزيزة على، فهي تحمل في طياتها الكثير من المشاعر، بما في ذلك الجوع
والفراق والحنين
لكنه لم يقتنع وقال أنت ستعود إلى حيث
كل هذا الجمال ياحاتم
أما نحن سنذكرك بهذه الوحه
ونرى من خلالها صورة حية
عما لم تره أعيننا
فنحن مهما تصورنا جمال بلادكم البعيدة
لن نتصورها بهكذا تفاصيل جميلة ودقيقة
وبعد إصرار تركتها- على مضض-
ورجعت إلى الديار حاملا أحلام أمي وقد تحققت الدكتور حاتم
وبعد رحلة طويلة وشاقة شارفت على الوصول
وكل همي أن أرى الفرحة في عيون أمي
سرت ببطء وأنا أتخيل كيف سيكون إلقاء
شاهدت المنظر بخيالي
سيناريوهات كثيرة
في كل مرة أغير طريقة اللقاء أن جلوسي لسنوات بين جدران غرفةبين الكتب
ووجع الحنين زرع بداخلي
إنسان حالم له إحساس مرهف وخيال واسع
فأني عشت على أرض ليس لها حدود بنظري ماء وسماء ونبات وشمس وقمر وبيت من طين وقصب.
كأني نقطة في ورقة بيضاء
تركت مكانها لتدخل في كتاب رياضيات مزدحم بالأرقام والرموز كلما حاولوا فكها ازدادت وتشعبت وخنقت الأوراق وأنهكت القلم
لكني أخيرا عدت سأرى أمي وغيده وصغارها
الذين لم أنس جلب الهدايا لهم
فقد جمعت المال من عملي بغسل الصحون
في الغربة
وأحضرت لغيده ثوبا جميلا على الطراز الأوروبي لاأعرف أين سترتديه!!!!!
وهي تصيد السمك أم وهي تثير النار بامحراث التنور لااعلم
اقتربت كثيرا وصلت لضفاف النهر بيني وبين أمي فقط النهر بدأت دقات قلبي تتسارع
وأنا أنتظر أن يمر أحد بمشحوفة
لينقلني إلى حيث أمي
كنت أخبئ هديتها جيدا أحضرت لها أكوابا للشاي
مذهبة من حافاتها
بدل الكوب المكسور
وشكلاته فاخره لندنية أمي لم تعرفها
ولم تر مثلها أبدا وهديتها الكبرى شهادتي فقد أصبحت طبيبا
كانت من بين تخيلاتي
أنها ستأتي وستراني مرتدي بدلة ورباط عنق
وجوارب
وزوج أحذية لم أرمها كالسابق
أردت أن ألقي عليها التحية بالغة لانگليزية
لتفرح بمدى تطوري
كنت أريدها أن تلاحظ كيف وضعت ساعتي
في جيبي وأخرجتها قليلا وتركت سنسلتها متدلية آه
أنها أصعب دقائق تمر في حياتي
متى إلقاء بأمي وبينما أنا أغط بتفكير عميق
لمحت أحدهم وقد اقترب بمشحوفة
وإذا هو صهري محمد نزل محمد وحضنني بقوة
حاولت أبعاده لكنه تمسك بي بقوة
وضل يقبلني
قلت له هيا خذني لأمي أنا مشتاق لها
فقال هيا اركب معي
سرنا بالنهر وأنا غارق بالنظر لتفاصيل التفاصيل أنا مشتاق مشتاق جدا حتى لأصوات الضفادع.
لكن محمد كان صامتا للحظة تركت التأمل وسألته كيف حالكم كيف حال غيد
قال غيد بخير ونعمه ستفرح جدا بعودتك
فهي كل يوم تخبر أبنائي خالكم كان هكذا وخالكم هكذا
أنهم يتصورونك بطلا خارقا سافرا بجناحين ليدرس وتتكلم اللغات وكثير من الأوصاف غيد لا تصمت ولاتنسى أن تذكرك يوميا
والحقيقة ياصهري أنت فعلا مختلف حققت
ما لم يتصوره أحد نحن أقصى أحلامنا أن نذهب للعاصمة
وأنت ذهبت لآخر الدنيا
محمد أخبرني كيف حال أمي ماذا قالت عندما علمت بقرب موعد قدومي
محمد بصوت منخفض فرحت جدا
اقتربنا من الجرف وأنا أنظر وانظر ولم المح أمي
تهلل فرح وهي تنتظرني
أمي عندما أكملت الابتدائية كانت ترقص وترقص
وهي بانتظاري لماذا غابت عن الجرف
اقتربت أكثر ولا أرى دخانا متصاعدا ولانار
ماذا هنالك مابهى أمي
محمد لماذا يبدوا جرف البيت مهجورا
أين حيواناتنا لماذا لاتنبح الكلاب
لكن محمد كان يغير الموضوع
حتى دنونا كثيرا نزلت من المشحوف
ولا زالت أمي لم تظهر وإذا بصوت خلف البيت
ركضت نحوه أمي أمي كالطفل والدموع تغمر عيناي وإذا بأمي على سرير من قصب نظرت ودموعها تهل وهي تزغرد وهي ملقاة على ظهرها ماذا حصل أمي لماذا أنت هكذا
لم تتكلم ضلت تشم بي وتقربني إليها تضمني بقوة
اصمت ياحاتم دعني فقط أشم رائحتك
أنت تعرف أنك أنا .
أنت روحي أنت أملي أنت كل ما لدي بهذه الحياة
بشرني يا قرة عيني نعم يا حبيبتي أصبحت طبيبا
كما تريدين وساذهب قريبا للعاصمة
لاستلام وضيفتي بالمستشفى لمدة بعدها
آتِ للمحافظة فأنا لا أحب العيش بعيدا عنكم
الغربة كسرت قلبي
لكن ماذا حدث لكي ياأمي
لقد كنت في النهر أحاول اصطياد بعض
الأسماك وهبت رياح قوية وأنا لم أنتبه
لأنني منذ سفرك لا عقل لي أفكر بك ليلا نهارا
هل أكلت هل شربت
هل أنت بخير وحتى رسائلك كانت تصل متأخرة وأحيانا لا أحد يقرائها لي
أنقلب المشحوف وكسر أحد أ ضلاعي وأنا ذهبت للسكن عند غيده ولا أأتي هنا
لكن محمد نقلني اليوم لاستقبالك
شكرا، يا محمد
كم أنت أصيل اعتنيت بأمي بغيابي
محمد لا تبال أمك أمي
ذهبوا جميعا استقبلتهم غيد وأطفالها بالهفة وشوق
أعدت الطعام وجلبته لهم
لكن لحاتم طلب غريب
غيد أين صينية جدتي؟
غيد حاتم لا زلت تذكرها أردت رميها
لكن أمي رفضت هي مع أغراضها لازالت في دارنا
أم حاتم لا ياغيد الصينية طلبت
من محمد أن يحضرها لي- قبل أيام-
ضحك الجميع بعد أن وضعوا الطعام بالصينية المجعدة
للقصة بقية انتهى الجزء الأول
|