السيد بلال وهبي ـ لبنان ||
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ دُنْياهُ إِلاَّ ما أَنْفَقَهُ عَلى أُخْراهُ”
نحن نعتقد تَبَعاً للبراهين العقلية التي لا يمكن دحضها أن الإنسان لم يخلَق للدنيا بل خُلِق للآخرة، وما الدنيا إلا مرحلة يعبرها في طريقه إلى عالم البقاء والخلود، وقد سبق وتحدثنا في هذا أكثر من مرَّة وبرهَنَّا عليه، فلا يحسُن بنا أن نكرر الكلام فيه، لكننا نضيف هنا أنه لما كانت الدنيا مرحلة على طريق الآخرة، فهي مرحلة مُؤَسِّسة للآخرة وبانية لها، وبكلمة أخرى: إن شكل وطبيعة ونوع حياة الإنسان في الآخرة يقَرِّره في الدنيا، فما يزرعه هنا يحصده هناك، فإن شاء أن يكون في جَنَّة الآخرة فعليه أن يبنيها هنا في الدنيا، ومادة بنائها العقيدة الصحيحة، والأعمال الصالحة، وإن شاء أن يكون في نار الآخرة فيكفيه أن تكون عقيدته باطلة مع قدرته على البحث عن العقيدة الصحيحة وهو ما يعرف في اصطلاح العلماء (بالجاهل المقصر) وقد تكون عقيدته صحيحة ولكن سلوكياته في الحياة غير مستقيمة، كارتكاب الذنوب والمعاصي والموبقات والفواحش، فهذه جميعاً مادة إشعال النار الأخروية.
وبهذا نعلم أن الدنيا والآخرة ليستا عالَمَين منفصلين، بل هما عالمان متصلان مترابطان ترابطاً عضوياً، وبينهما رابطة السَّبَب والمُسَبَّب، ما يكون عليه المَرء هنا يكون عليه هناك إلا أن تدركه رحمة الله أو ينال شفاعة الشافعين.
وبهذا يُعلَم أيضاً أن الآخرة هي الأهم من وجهة نظر المؤمن، وتتقدّم في الأولوية على الدنيا، فإذا تعارضتا فتتقدم الآخرة على الدنيا، وأعني بذلك أنه إذا كان المَرءُ يريد أن يعمل عملاً لدنياه فعليه أن ينظر إلى أثره في آخرته، فإن كان أثره الدنيوي خيراً من وجهة نظره وكان أثره الأخروي شراً امتنع عنه واجتنبه، وإذا كان أثره الدنيوي شراً من وجهة نظره وكان أثره الأخروي خيراً فعله بلا تحَفُّظ. وهذا ما لفت الأنظار إليه الإمام أمير المؤمنين (ع) إذ قال: “مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ وَكُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَكُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ”
ومنه يعلم أيضاً أن السعيد في الدنيا هو الذي يعمل الأعمال التي تُسعِده في الآخرة ولو كانت مُكلِفة له، كالذي ينُفِقُ مالَه في سبيل الله وعلى الفقراء والمساكين، أو يصوم، أو يصلّي، أو يُقتَلَ في سبيل الله، وأن الشقي في الدنيا هو الذي يعمل الأعمال التي تُشقيه في الآخرة ولو كانت لذَّته فيها في الدنيا، كالذي يظلم الناس أموالهم، فصحيح أنه يجمع المال ويحسب أنه غَنيٌّ، ولكنه يأكل في بطنه ناراً وسيصلى في الآخرة سعيراً.
إن قول الإمام أمير المؤمنين (ع): *”لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ دُنْياهُ إِلاَّ ما أَنْفَقَهُ عَلى أُخْراهُ”* يشير إلى ما سبق ذكره، ويحمل في طياته معانيَ عميقة تتعلَّق بالاستثمار في الحياة الآخرة من خلال الأعمال الصالحة في الدنيا، فالإنسان لا يستفيد من دنياه إلا بما ينفقه في سبيل الله من مال، وجُهدٍ، وعِلم، ومعرفة، وكل عمل صالح يعود عليه بالنفع في الآخرة، وهذا ما يتجلّى في العديد من النصوص القرآنية والروائية الشريفة التي تحثُّ على الانفاق في سبيل الله والعمل للآخرة، فعلى سبيل المثال أذكر قوله تعالى: “…وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴿272/ البقرة﴾ وقوله تعالى: “الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿274/ البقرة﴾
ورُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: “إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”
ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: “إنّما لَكَ مِن مالِكَ ما قَدَّمتَهُ لِآخِرَتِكَ، وما أخَّرتَهُ فلِلوارِثِ” وجاء في وصيته لابنه الحسن المجتبى (ع): “إنّما لَكَ مِنْ دُنياكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْواكَ، فَأَنْفِقْ في حَقٍّ ولا تَكُن خازِناً لِغَيرِكَ”
ومِمَّا لا شَكَّ فيه أن الإنفاق في سبيل الله يعتبر من أعظم الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسلم. فهو يعكس الإيمان الحقيقي ويعزِّز الروابط الاجتماعية، ويحقِّق التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع فضلا عن عوائده العظيمة على المُنْفِقِ في الآخرة.
وعليه فيجدر بنا قارئي الكريم أن ننهض إلى الاستثمار في الآخرة كما نستثمر في الدنيا، مع ملاحظة أن الاستثمار في الآخرة مُتاحٌ لنا في كل حين، في حال الثراء وفي حال الفقر والقِلَّة، في حال الخوف وفي حال الأمن، وكُلَّما عجَّلنا في الاستثمار ونحن في طور الشباب كانت الفرصة أعظم، والمكاسب أكبر.
|