منذ بدء المنافسة على زعامة حزب المحافظين، سعت ليز تراس لأن تقلد رئيسة الوزراء وزعيمة المحافظين الراحلة، مارغريت ثاتشر، التي أحدثت تغييرا تأريخيا في السياسة البريطانية، الداخلية منها والخارجية، وحدّثت الاقتصاد البريطاني، ناقلة إياه نقلة نوعية.أحدثت انقلابا في قواعد اللعبة السياسية، عندما أضعفت الحركة النقابية، بقوانين تفرض عليها قيودا ديمقراطية، وأجبرت حزب العمال على تغيير وجهته الاقتصادية، من الاشتراكية الديمقراطية، إلى الرأسمالية الاجتماعية.
دأبت تراس على تقليد ثاتشر في كل شيء، من طريقة الكلام إلى ارتداء الزي واختيار ألوان الملابس، التي كانت ثاتشر ترتديها، مراهنةً على شعبية رئيسة الوزراء الراحلة بين المحافظين، وملمِّحةً لجماهير المحافظين بأنها زعيمةٌ قوية، تسير على خطى زعيمةٍ قويةٍ أخرى، واجهت مصاعب معقدة وتغلبت عليها، محققةً إنجازاتٍ تأريخيةً لبلدها، وأنها ستتخذ القرارات الحاسمة والصعبة التي يحتاجها البلد.
اليوم، حصدت ليز تراس ما زرعت، وتكللت جهودها الحثيثة بالنجاح، إذ فازت بزعامة حزب المحافظين بفارق كبير، 57.4%، مقابل 42.6% لمنافسها، وزير المال السابق، ريشي سوناك.
كان فوزا متوقعا، ليس لأنها الأجدر بالزعامة أو الأقدر على إدارة الاقتصاد وحل أزمة التضخم، أو ما يسمى محليا، بـ"أزمة غلاء المعيشة"، بل لأن فرصها في كسب الناخبين أفضل من منافسها، الذي رفع الضرائب عندما كان وزيرا للمالية، ووعد بالإبقاء عليها، باعتبار أن قراره برفعها كان صائبا، وهو بالتأكيد قرار صائب اقتصاديا، لكنه كارثي انتخابيا.
لم يكن تقليد ليز تراس لمارغريت ثاتشر عبثيا أو مزاجيا، بل كان تخطيطا استراتيجيا ذكيا، لأنه يذكِّر المحافظين بالصعوبات الجمة التي واجهتها ثاتشر عندما تولت رئاسة الوزراء عام 1979، والشجاعة التي تحلَّت بها في مواجهتها والتغلب عليها، وأنها (ليز تراس) ستكون بقوة وعزم وتصميم مارغريت ثاتشر في مواجهتها للمشاكل الحالية المعقدة.
نعم، لقد تمكنت تراس من إقناع غالبية أعضاء حزب المحافظين، الذين صوتوا لها لتكون زعيمتهم ورئيسةً للوزراء، لإكمال ولاية بوريس جونسون، ولكن هل ستتمكن فعلا من إقناع ناخبي حزب المحافظين الذين صوتوا لجونسون عام 2019، والذين لم يكن لهم دور في انتخابها؟.
والأهم من ذلك، هل ستتمكن حقا من إقناع غالبية الشعب البريطاني، بخططها الاقتصادية وسياساتها الداخلية والخارجية، وحل مشاكله المعقدة، التي تطورت خلال السنوات القليلة الماضية، لأسباب عديدة، أهمها انشغال الحكومة والشعب بقضية بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والتي تفاقمت منذ عام 2015، وقادت إلى إجراء الاستفتاء العام على البقاء في الاتحاد عام 2016، والذي قاد إلى انسحابها منه في مطلع عام 2021، وفاقم المصاعب التي تواجهها بريطانيا، في وقت كانت تصارع فيه جائحة كورونا، بين مشاكل أخرى.
سوف تواجه ليز تراس مشاكل مختلفة، وأعقد كثيرا من المشاكل التي واجهتها مارغريت ثاتشر. سوف تواجه الارتفاع الشاهق في أسعار الطاقة، والذي يخشاه كثيرون الآن، خصوصا المسنين، الذين يتأثرون بالبرد أكثر من غيرهم، وكثيرون منهم يخشون الشتاء بسبب أمراض الشيخوخة التي يفاقمها البرد.
والمسنون شريحة كبيرة في المجتمع، وكونهم آباءً وأجداداَ لمعظم أفراد الشعب، فهم أيضا مؤثرون في الرأي العام، وعادة ما تراعي الحكومات المتعاقبة أحوالهم وتقدم لهم المساعدات قبيل فصل الشتاء، بل دائما ما نرى إعلاناتٍ تضعها الحكومة في وسائل الإعلام، تدعو المسنين إلى الإسراع في الحصول على المساعدات المخصصة لهم.
كيف ستعالِج تراس هذه المشكلة؟ حتى الآن، لم تعلن عن خططٍ محددة، ولكن خياراتها محدودة فيما يتعلق بمصدر الأموال التي يمكن استخدامها لمساعدة السكان في تحمل هذه الأسعار الباهظة، خصوصا خلال فصل الشتاء. يمكنها أن تقترض لتمويل الحل، ولكن الاقتراض سيساهم في رفع أسعار الفائدة، ويكبل البلد بديون باهظة قد تستمر لسنين طويلة، وربما يدفع فاتورتها الجيل المقبل.
الخيار الآخر هو فرض ضرائب على أرباح شركات الطاقة التي تضاعفت خلال هذه الأزمة، وهذ الحل طرحه حزب العمال المعارض، وتبناه جزئيا، منافسها ريشي سوناك. لكن هذا الخيار يتعارض مع سياسة حزب المحافظين القائمة على مكافأة النجاح، عبر تخفيض الضرائب، وليس معاقبة الشركات الرابحة بقضم جزء من أرباحها.
المشكلة الأخرى هي غلاء المعيشة الناتج عن ارتفاع معدل التضخم، واقترانه بتدني الأجور، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى كساد قد يتحول إلى كساد تضخمي خطير، يمكن أن يستمر لسنتين أو أكثر، ما يعني أنها لن تتمكن من الفوز في الانتخابات المقبلة، خصوصا مع وجود معارضة قوية متمثلةً بحزب العمال، وزعيمه الجديد، السير كيير ستارمر، الذي عمل في القضاء لعشر سنوات، وكان رئيسا للادعاء العام لخمس سنوات، اكتسب خلالها خبرة واسعة في الإدارة ومعالجة مشاكل الدولة.
هناك مشاكل أخرى، منها الأزمة الروسية-الأوكرانية، ووقوف بريطانيا إلى جانب أوكرانيا وتقديمها المساعدات المالية والعسكرية والسياسية لها، وتشجيع البريطانيين على فتح منازلهم لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين مقابل دعم مالي من الحكومة.
وهناك أيضا المشاكل القائمة مع الاتحاد الأوروبي، خصوصا بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي جعلها جزءا فعليا، وليس رسميا، من الاتحاد الأوروبي، وخلق مشاكل سياسية واقتصادية كثيرة، إذ أصبحت بموجبه مقاطعة أيرلندا الشمالية جزءا من الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، فلا حدود حقيقية بين المقاطعة وجمهورية أيرلندا، إذ انتقلت حدود بريطانيا، فعليا، إلى البحر، الأمر الذي أزعج الأيرلنديين الملكيين، المتمسكين ببقاء أيرلندا الشمالية ضمن المملكة المتحدة، والخائفين من أن يؤدي هذا التقارب مع الجنوب إلى التحاق المقاطعة مستقبلا بجمهورية أيرلندا.
مشكلة أيرلندا حُلَّت عام 1998 في عهد حكومة توني بلير العمالية، وكانت فتحا كبيرا في السياسة البريطانية، إذ وضع نهاية لصراع دموي مرير، دام عقودا من الزمن، لم يتوقف عند حدود المقاطعة، بل تعداها إلى انكلترة، إذ تمكن مسلحو الجيش الجمهوري الأيرلندي المحظور من اغتيال سياسيين محافظين، من ذوي المواقف المناهضة لوحدة أيرلندا، ومنهم عضو البرلمان، إيان غاو، الذي قتل بقنبلة زُرِعت في سيارته عام 1990.
وكذلك تفجير الفندق الذي كان يُعقِد فيه حزب المحافظين البريطاني مؤتمره السنوي عام 1984، الذي قُتل فيه خمسة من أعضاء الحزب، بمن فيهم عضو في البرلمان، وجُرح 31 شخصا آخرون، بينما نجت رئيسة الوزراء من الموت بأعجوبة.
لكن هذا السلام مهدد الآن بسبب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وضرورة إعادة نقاط التفتيش بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يصِرُّ عليه الأيرلنديون الملكيون، ويعارضه بشدة الأيرلنديون الجمهوريون. لذلك صار مُلِحَّا إيجادُ حلٍ يرضي الطرفين، ويعزز علاقات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي التي تدهورت بسبب انسحابها منه.
رئيسة الاتحاد الأوروبي، أورسيلا فوندر ليان، رحبت بانتخاب ليز تراس، التي كانت من المؤيدين لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، لكنها غيرت رأيها لاحقا بعد الاستفتاء الذي قاد إلى الانسحاب. ولم تكن هذه القضية الرئيسية الوحيدة التي غيرت فيها تراس رأيها، فقد انتقلت من حزب الأحرار الديمقراطيين، إلى حزب المحافظين، وتحولت من أنصار الجمهورية المطالبين بإلغاء النظام الملكي، إلى الولاء للتاج البريطاني والتمسك بالنظام الملكي. ويؤاخِذ خصومُ تراس عليها هذه التحولات الفكرية الجذرية في مسيرتها السياسية، وكثيرون يعتبرونها انتهازية سافرة، وسعي نحو السلطة على حساب المبادئ.
وتنحدر تراس من عائلة فقيرة من مدينة أوكسفورد، وقد وصفت أبويها بأنهما على اليسار من حزب العمال، وكانا ناشطيْن سياسيا في المنظمات اليسارية. لكن ابنتهما الطموحة، ليز، عبرت حدود اليسار متجهة يمينا إلى حزب الديمقراطيين الأحرار، ثم واصلت مسيرتها نحو اليمين، لتنتقل إلى حزب المحافظين، وترشح عنه في الانتخابات وتفوز بمقعد في البرلمان عام 2010، وتتولى حقائب وزارية عديدة خلال 12 عاما، بدءا بالبيئة والخزانة ثم التعليم وأخيرا الخارجية، التي خدمتها كثيرا، إذ أكسبتها خبرة في العلاقات الدولية، وأبرزت اسمها وجعلت منها رمزا دوليا.
|