د. محمد صادق الهاشمي
شهدت التجربة السياسية في العراق أحداثًا جسامًا وتحوّلات عميقة منذ عام 2003، حين بدأت أولى ملامح الحكم الشيعيّ بتأسيس «مجلس الحكم».
ومنذ ذلك الحين، واجهت العملية السياسية منعطفاتٍ خطيرةً، استطاع الشيعة تجاوزها بجدٍ وإخلاصٍ وتفانٍ، مدعومين بحماية المرجعية الدينية، وإسنادٍ ثابت من الجمهورية الإسلامية. فقد تمكّنوا من ترسيخ الدستور، وسط سيلٍ من الدماء الزكية، رغم محاولات الطّائفيين المستمرّة لعرقلة المسار السياسيّ، إذ لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل لجأوا إلى الاعتصامات والتجنيد والقتل والتفجير، متخفّين وراء أقنعة داعش والقاعدة وحزب البعث، حتى عام 2025.
أفاق العالم العربي، الذي يغلّفه الطابع الطائفي، على صدمة وجود دولةٍ عربية كالعراق، يضطلع الشيعة فيها بدورٍ أساسي في إدارة الحكم بوصفهم الأغلبية. هذا الواقع فجّر موجاتٍ من الويلات والمؤامرات والانقلابات السياسية ضدهم، وسخّر العالم العربي أدوات الإرهاب والتعطيل السياسي كافّة ـ من تظاهراتٍ واعتصاماتٍ إلى تمردٍ داخل المكوّن الشيعي نفسه عبر الحركات التشرينية وغيرها ـ إلا أنّ النتيجة النهائية آلت لصالح الشيعة، وثبّتت حضورهم في المشهد السياسي العراقي
بعد تلك المقدمات العسيرة والتضاريس الحادّة التي تمكّن الشيعة من تجاوزها بصبرٍ وثبات، بلغت مسيرتهم السياسية محطّة عام 2025، حيث يشهد المشهد تحرّكًا واسعًا من المحيط الطائفي الذي استغلّ الظروف والمتغيرات الراهنة لصالحه.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إنّ الانتخابات المقبلة تتميّز بعدة سمات أبرزها ما يلي:
أولاً: استغلال الطائفيين للظروف الشيعية:
يسعى بعض الطائفيين، في الداخل والخارج، إلى تحويل مركز القرار في العملية السياسية من يد الشيعة إلى السنة، وذلك من خلال الإخلال بالتوازن الانتخابي الشيعي لصالحهم. ويعملون على تحقيق ذلك عبر دفع جمهورهم إلى مشاركة واسعة في الانتخابات، مستفيدين من حالة العزوف النسبيّ لدى الناخبين الشيعة، ومن بعض الثغرات والخلافات داخل البيت الشيعي نفسه.
وعليه، فإنّ الانتخابات المقبلة تُعدّ محطةً مصيرية لتقرير مستقبل الحكم الشيعي وترسيخه لمرحلةٍ قادمة بثباتٍ ورسوخٍ أكبر.
ثانيًا ـ الربيع الإخواني السلفي:
يعمل التيار الطائفي على استثمار المتغيرات الإقليمية والدولية التي أعقبت طوفان الأقصى، وما تبعه من تضييقٍ على حزب الله في لبنان، وصعودٍ للفكر الإخواني في العالمين العربي والإسلامي، بهدف تكرار السيناريو السوري (الانقلاب الجولاني) في العراق، ولكن عبر البوابة الانتخابية. وتكفي عشرات التصريحات الصادرة عن رموزهم لفهم نواياهم ومخططاتهم. ولذلك، لا خيار أمام الشيعة سوى المضي الحازم نحو الانتخابات، لمواجهة هذه التحديات وإثبات الوجود، وصون العملية السياسية من المصادرة، وإظهار أن المتغيرات التي يستغلها الطائفيون لا يمكن أن تسلب الشيعة حقهم المشروع.
ثالثًا ـ صعود الطبقات الشبابية للقيادة:
يرى الطائفيون، وفق حسابات دقيقة، أن الفرصة مواتية لنقل السلطة إليهم قبل أن تصل إلى القيادات الشيعية الشابة. فهم يعتقدون أن العملية السياسية ستضعف بعد مغادرة القيادات الشيعية التاريخية لمواقع الحكم بحكم تقدمهم في العمر.
ويدرك هؤلاء أنّ هذه القيادات، على اختلاف توجهاتها، هي التي منحت الشيعة القوة والثبات في إدارة الدولة، ولذلك يعتبرون غيابها المحتمل فرصتهم الذهبية للانقضاض على الحكم، متوهمين أن العملية السياسية ستفقد تماسكها بعد رحيل القادة المؤسسين.
رابعًا ـ منع تجذّر المقاومة في جسد الدولة:
يسعى الطائفيون إلى الإخلال بالتوازن المكوّناتي وإضعاف الهيكلية الشيعية قبل أن تتجذّر المقاومة والحشد في كيان الدولة أمنيًا وسياسيًا.
ومن هنا، على الشيعة أن يركّزوا في هذه المرحلة على المقاومة السياسية بقوة موازية للمقاومة العسكرية، وأن يكون شعارهم 🙁 يدٌ تحمل البندقية، وأخرى تمسك بزمام الحكم(.فلكي لا تتجذر المقاومة وتتحول إلى الركيزة والقائد لعهدٍ جديد من عمر الدولة العراقية، يخطط الطائفيون لانقلابٍ سياسي انتخابي، ولا سبيل أمام الشيعة سوى التعبئة العامة الواعية لمواجهته.
خامسًا ـ المشروع الطائفي الانتخابي:
يدرك الطائفيون أن تنفيذ انقلابٍ عسكري بات مستحيلًا في ظل امتلاك الشيعة لموازين القوة والسلاح، لذا يتجهون نحو التغيير عبر صناديق الاقتراع، مستغلين العزوف عن المشاركة والدعوات إلى المقاطعة.
وعليه، ينبغي على الشيعة أن يعزّزوا الوعي الانتخابي في جمهورهم، لترسيخ حضورهم وحماية العملية السياسية من أي محاولة للالتفاف أو المصادرة.
سادسًا ـ الربيع الصهيوني العربي:
بعد طوفان الأقصى، اصطفّ الطائفيون إلى جانب الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، وطعنوا القضية الفلسطينية بخنجر الغدر، ظنًّا منهم أن هذا الموقف سيكسبهم الحظوة لدى واشنطن وتل أبيب.
ويعتقد هؤلاء أن ذلك الدعم سيمنحهم فرصة تنفيذ انقلابٍ داخلي على الشيعة في العراق بموافقةٍ أمريكية، بعد أن اتسعت الهوة والصراعات بين شيعة المنطقة والقوى الغربية.
ويتصور الطائفيون أن نجاح التجربة في سوريا بعد ما سُمّي بـ”الربيع الصهيوني” يمكن أن يتكرر في العراق، إذ يقرأ المتابع لخطاباتهم بوضوح مسعاهم نحو صناديق الاقتراع لتحقيق هذا الهدف الخطير.
|