كتب / سليمان أمين
تُمثل حرب تشرين التحريرية عام 1973 (أو حرب أكتوبر) نقطة تحول جوهرية في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، ليس فقط بكونها نجحت في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية ضد الجيش الإسرائيلي، بل لكسرها خرافة “الجيش الذي لا يُقهر” وتأكيدها على قدرة الجيوش العربية على المواجهة واسترداد الإرادة الوطنية. بالنسبة لسوريا، تُمثّل هذه الحرب الذروة النضالية التي قادت إلى توقيع اتفاقية فك الاشتباك عام 1974 بعد حرب استنزاف ضارية، مُرسِّخةً في الوعي الجمعي السوري مبدأ المقاومة المسلحة كطريق لتحرير الأرض.
ولا تزال حرب تشرين التحريرية (1973) تمثل واحدة من أكثر اللحظات التاريخية حساسية في الوعي السوري والعربي. فهي ليست مجرد معركة عسكرية بين جيوش، بل حدث سيادي تحرّري أعاد رسم معادلات القوة في المنطقة، وأثبت أن الإرادة العربية قادرة – ولو مرحلياً – على كسر الغطرسة الصهيونية التي سادت بعد نكسة 1967.
لكن ما يجري اليوم في سوريا من تشويهٍ متعمّدٍ أو تهميشٍ مقصودٍ لهذه الحرب يطرح تساؤلات عميقة: هل هناك محاولة منظمة لإلغاء رمز وطني جامع، ولمصلحة من يتم ذلك؟
السياق السياسي لقرار الإلغاء
في خطوة أثارت جدلاً واسعًا، أصدر سلطة الأمر الواقع في سوريا، مرسومًا يلغي عطلة يوم حرب تشرين التحريرية (6 تشرين الأول) من قائمة الأعياد الرسمية، مستبدلاً إياها بأعياد جديدة ترتبط بـ”الثورة السورية” و”يوم التحرير”. ورغم أن التبرير الرسمي لهذه الخطوة قد ينصب في إطار إعادة بناء الهوية الوطنية السورية الجديدة وقطع الصلة بالحقبة السابقة، إلا أن الإلغاء يأخذ أبعادًا خطيرة عند النظر إليه من زاوية الصراع المستمر مع الكيان الصهيوني.
إن إلغاء مناسبة وطنية ترسّخ في الذاكرة مبدأ المقاومة المسلحة للعدوان والاحتلال، هو بمثابة تفكيك رمزي لأحد أهم مرتكزات الأمن القومي السوري القائم على رفض الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان. تشتمل العملية على محو إحدى صفحات التاريخ التي تُشير إلى إمكانية تحقيق إنجاز عسكري ضد إسرائيل، مما يهدد بتحويل الصراع من قضية وجود إلى مجرد خلاف على الحدود.
الأبعاد في ميزان السياسة الصهيونية
من منظور إسرائيل الاستراتيجي، تُعدّ حرب تشرين التحريرية “زلزالاً سياسياً ونفسياً” (كما ورد في بعض التحليلات) أسفر عن استقالة رئيسة الوزراء آنذاك، غولدا مائير، وأعاد النظر في كامل العقيدة الأمنية الإسرائيلية القائمة على الردع والحدود الآمنة.
إن التداعيات المحتملة لإلغاء ذكرى تشرين في سوريا تخدم المصالح الصهيونية لعدة اعتبارات:
طمس رمزية التحدي: يُعدّ إلغاء العطلة خطوة نحو تجريد الصراع من جذوره التاريخية والعسكرية في الوعي العام السوري. هذا التجريد يخدم الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى تحييد الجبهة السورية بالكامل، وإخراجها من “معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي” بشكل نهائي، مما يُبقي الاحتلال (خاصة في الجولان المحتل) واقعًا مسلَّمًا به وغير قابل للمقاومة.
شرعنة الواقع القائم: تستثمر إسرائيل دومًا في إضعاف الدول العربية المجاورة لها، سواء من خلال استنزافها (كما حدث في سنوات الحرب السورية) أو من خلال دعم أي توجهات تُسهّل الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل. إن إزالة رمزية حرب التحرير يرسل إشارة ضمنية إلى المجتمع الدولي وربما الإقليمي بأن سوريا الجديدة بصدد تجاوز عهد المواجهة العسكرية، وهي إشارة تتوافق تمامًا مع مصلحة إسرائيل في تثبيت “الوضع الإقليمي الآمن” (المُشار إليه في أدبياتهم الأمنية).
تخفيف الضغط الدولي: تُشكّل الذكرى السنوية للحرب، بما تشتمل عليه من احتفالات رسمية وبيانات، تذكيراً سنوياً للعالم بأن هناك أرضًا محتلة وصراعًا لم يُحسم بعد. إزالة هذه العطلة يُقلّل من حجم الاهتمام الرسمي السوري بالقضية، مما يريح الدبلوماسية الإسرائيلية ويسهل عليها التركيز على أجندة التطبيع الإقليمي دون ضغط من جبهة المواجهة الكلاسيكية.
الذاكرة الوطنية السورية كساحة صراع في ظّل التفكك والفراغ الرمزي
الذاكرة الوطنية ليست مجرد سرد للتاريخ، بل هي أداة من أدوات الصراع السياسي. من يملك القدرة على صياغة الذاكرة الجماعية، يملك القدرة على توجيه وعي الأجيال القادمة.
محاولة إلغاء أو تهميش حرب تشرين لا تأتي من فراغ، بل تندرج ضمن مشروع أوسع لإعادة تشكيل الوعي السوري والعربي بما يتماشى مع مصالح إسرائيل وحلفائها.
ففي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول العربية إلى تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، يصبح من “الضروري” – بالنسبة لهذه المشاريع – تحييد الرموز التي تُذكّر الشعوب بالصراع الحقيقي وبالاحتلال المستمر للجولان. إنّ تهميش حرب تشرين هو جزء من محاولة إنتاج وعي جديد منزوع المقاومة، يقبل بالأمر الواقع كقدرٍ نهائي.
الحرب الطويلة التي عاشتها سوريا منذ 2011 أضعفت مؤسساتها، وفتّتت مجتمعها، وخلقت أجيالاً شابة نشأت في بيئة مضطربة، دون نظام تعليمي أو إعلام وطني مستقر. هذه الأجيال لا تحمل نفس الذاكرة الجمعية التي حملها آباؤها.
وفي غياب خطاب وطني موحّد، يصبح من السهل ملء الفراغ الرمزي بخطابات بديلة، بعضها يروّج للتطبيع، وبعضها الآخر يعيد تعريف “العدو” ليصبح خصماً داخلياً لا خارجياً.
هنا تكمن خطورة المرحلة: إذا فقد السوريون ذاكرتهم الجمعية عن حرب تشرين، فإنهم يفقدون أحد أعمدة هويتهم الوطنية الجامعة. فالحرب لم تكن انتصار نظام، بل انتصار وطن بأكمله، بكل مكوناته الاجتماعية.
تشرين ليست ذكرى… بل جبهة وعي
إنّ محاولة إلغاء حرب تشرين التحريرية هي محاولة لإلغاء جزء من هوية سوريا الوطنية، وتحويلها إلى بلد فاقد للذاكرة، يسهل إعادة تشكيله بما يتناسب مع مصالح قوى خارجية.
وإن إلغاء عطلة حرب تشرين التحريرية في سوريا لا يقتصر على كونه تعديلاً إدارياً أو سياسياً داخلياً، بل هو قرار يحمل أبعادًا استراتيجية عميقة تتقاطع مع المصالح طويلة الأجل للكيان الصهيوني. يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لـ”تبرئة” سوريا الجديدة من عبء تاريخ الصراع المسلح، وبالتالي إضعاف الإرادة الشعبية والرسمية للمطالبة بالجولان المحتل. يرى المراقبون أن هذا التغيير يساهم في إتمام ما فشلت إسرائيل في تحقيقه عبر الحرب والسياسة منذ عام 1973، وهو إلغاء أثر تشرين كحدث فارق في تاريخ الصراع وتأكيد تفوقها الدائم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة موقف وكالة عين شاهد
|