رياض الفرطوسي ||
يقولون إن الكسل ترف العقل، وإنه مساحة يتنفس فيها الفكر بعيداً عن لهاث العالم. يذكرون أسماء فلاسفة صنعوا حوله هالة من القداسة: دايوجينيز في برميله، نيتشه في عزلته، برتراند راسل حين بشر بـ«فضائل الكسل»، وألبير قصيري الذي رفع الكسل إلى مرتبة الفلسفة.
لكن السؤال الذي يجب أن نسأله بصدق: هل للكسل حقاً فلسفة؟ أم أنه وهم نختبئ فيه من صعوبة العيش؟
الكسل يبدو في ظاهره ملاذاً من صخب الحياة، وفضاءً للتأمل والصمت. لكنه أحياناً يتحول إلى مستنقع ساكن يجذبك إلى القاع. يسرق منك الدقائق ثم الساعات، ثم يختطف سنواتك وأنت تظن أنك تتأمل أو تتهيأ للكتابة أو تفكر في الوجود.
الكسل الذي يروجون له ليس دوماً حرية. إنه كثيراً ما يكون استسلاماً مقنعاً. حياة على الهامش بينما العالم يصنع مصائره الكبرى والصغرى من دونك. إن الفكرة لا تصير فكرة حية إلا حين تُختبر في ميدان الفعل. أما الفكر المعلق في فضاء الكسل، فلا يولد إلا مزيداً من العزلة والركود.
والحقيقة أن كثيراً من أجمل الأفكار وُلدت في زحام العمل، لا في سكون التمدد. في مشقة المهنة، في مواجهة الناس، في مسؤولية الفعل. الإنسان لا يعرف نفسه حقاً إلا حين يُلقي بها وسط الحياة، يتلقى ضرباتها، ويُعيد بناء روحه بعد كل سقطة.
ثم إن من أخطر ما في الكسل أنه يُغريك بشعور خادع بأنك أرقى من العالم. ترى من تركض حولك أقل وعياً أو أقل حكمة. لكن الكسل ليس دومًا دليلًا على الوعي، بل قد يكون قناعاً يخفي خوفاً دفيناً من الفعل ومن المواجهة.
ليس ثمة مجد في الكسل. المجد كل المجد لمن يجمع بين هدوء التأمل وسرعة الفعل. بين الصمت الذي يصنع الحكمة، والكلمة التي تصنع الفرق. بين لحظات العزلة الضرورية، والحضور الفاعل وسط الناس والحياة.
الكسل قد يمنحك سكوناً لحظياً، لكنه يسرق منك طاقة الاكتشاف. يفتح أمامك أبواب التفكير، لكنه يغلق عنك أبواب الإنجاز. يُوهِمك بأنك خارج الصخب، بينما الصخب يمضي ليستولي على كل شيء من دونك.
فهل للكسل فلسفة؟ ربما… لكنه فلسفة لا تبني عالماً ولا تترك أثراً. فلسفة تعيش في الظل، بينما الحياة الحقيقية تجري هناك، تحت الشمس، بين الساعين والفاعلين.
والحق أن الفلسفة الحقيقية ليست في الكسل، بل في القدرة على أن تفكر وأنت تمشي، أن تتأمل وأنت تصنع، أن تظل حراً حتى وأنت في قلب المعركة. لأن الحياة لا تنتظر المتكاسلين، ولا تتوقف احتراماً لأولئك الذين اختاروا الانسحاب بدعوى التأمل.
|